الخميس، 1 مايو 2008

التمثالْ / قصة قصيرة

بقلم / حسين حسن نرمو
أطلقت مدفعية المدينة ثلاث إطلاقات بأمر من السلطات ، دقت أجراس الكنائس بإيعاز من المطران ، وتلا آيات الذكر الحكيم من القرآن ، هذا كله حدث في يوم عادي جداً ، وتشير إلى شئ غير اعتيادي في المدينة . استيقظ أكثرية الناس في منازلهم على رنين الهواتف ، حاول كل شخص معرفة الحدث قبل الآخر ، وبعد أن أستمعوا إلى الإذاعة المحلية للمدينة وضواحيها ، قطع صوت المذيع عليهم الشك باليقين معلناً نبأ وفاة نجل كبير أغنياء ووجهاء المدينة أثر حادث مؤسف على حد قوله . وأعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام في كافة أنحاء المدينة وبأمر من السلطات ، رُفع الأعلام السود على واجهات الدور فيها ، عَلَق الكثير من الشبان قطع صغيرة من القماش الأسود على صدورهم ليشاركوا الكبير في حزنه ولأول مرة في تاريخ المدينة ، ترافق الجوقة العسكرية للموسيقى مع جنازة شخص مدني إلى مثواه الأخير ، شاركت مئات السيارات مع آلاف الناس في تشيع الجثمان إلى حيث الدفن . وشارك أكثرية أهل المدينة والمناطق المحيطة بها ف ي مضايف العزاء المقام على روحه ، وتجول الكبير في المضايف مرحباً بالمعّزين تارةً ويكيل المديح لنفسه ولنجله الفقيد تارةً أخرى ويقول : بعد الأربعين ، سأبني ضريحاً كبيراً على قبر المرحوم ، لا بل سأشتري قطعة أرض كبيرة في مركز المدينة ، وأطلب من السلطات ، تكليف كبير النحاتين بعمل تمثال له ، ويكرر خلال تجواله في مضايف العزاء . . . سأعمل . . . سأفعل . . . سأبني . . . سأ . . سأ . . بعدها وكما وعد المعّزين ، بنى على قبر ولده ضريحاً يُضرب به المثل ، وفي يوم افتتاحه ، حضر مسؤولي المدينة وجمع غفير من أهاليها . وراجع بعدها السلطات حول امكانية مساعدته بالموافقة على عمل تمثال له في مركز المدينة من قبل كبير نحاتي البلد . . . ورد كبير المسؤولين في البلد عليه . . طلبك صعبٌ علىّ بل مستحيل وليس من صلاحياتي . . . فغضب الكبير في ديوان المسؤول قائلاً . . أنا يُرفض لي طلبٌ ومنكم . . . وجاء توضيح المسؤول على طلبه أكثر هدوءً . . . يجب أن تفهم قصدي ، هنالك عرفٌ في كثير من البلدان وبما فيهم بلدنا طبعاً ، حيث يتم عمل ونصب التماثيل لأناس قدموا خدمات جليلة لوطنهم كالقادة العظام والفنانين والشعراء و. . وعلى كل حال سأرفع طلبك إلى السلطات العليا ، لأنها في الأخير من صلاحياتهم وعسى أن يوافقوا ، وبالتالي لا نقدر على غضب الكبير منا . وجاء رد السلطات العليا بالرفض طبعاً مثلما توقّع كبير المسؤولين في المدينة . وبعد تبليغ الكبير من قبل السلطات بعدم
الموافقة على عمل ونصب التمثال لنجله ، اشتّد غضبه ، ولم يكن بوسعه عمل شئ أكثر من الذي عمله واعتبره فشلٌ ذريع في حياته . وفي يوم ما وهو في دار الضيافة ، فكر مع نفسه وتأمل ديوانه الواسع وخطر بباله فكرةً أخرى فأمر من حوله بإحضار أشهر رسام في المدينة ، ليرسم في واجهة ديوان الضيافة صورة كبيرة لنجله الفقيد تغطي الحائط كله ، كي يكون في ذاكرة ضيوف القصر دائماً . وجاءوا بالرسام إليه وإذا بشاب في مقتبل العمر لا يتجاوز الخامسة والعشرين ربيعاً ، فلما رآه الكبير . . . سأله ربما بإستهزاء . . أ أنت أشهر رسام في المدينة ؟ جاء رد الرسام وبأسلوب ألطف منه وقال هكذا يسمونني ، وأظن لا تقدر أن تحكم قبل أن ترى عملي . . . . اتفق الكبير مع الفنان وقال له حينما يكون عملك بالمستوى المطلوب ، ستكون لك مكافئة كبيرة ..ثم باشر الفنان بالرسم ، وحينما سمعت أرملة ولده بالخبر ، توسلت من الكبير بالموافقة على رسم صورة مماثلة لزوجها في دارها المستقل . . ووافق على الفور ، وبلغ الرسام به للمباشرة بعد انتهاءه من الديوان . فلما علمت أرملة الفقيد بقدوم الرسام إلى دارها ، أمرت الخدم لتهيئة أجواء المكان له وتقديم كافة الخدمات . وبعد يومين من العمل ، أرادت أن تلقي نظرة على ما وصل إليه الفنان الشاب من باب الفضول أولاً . . . وبعد أن وقفت أمام الفنان والصورة ، ارتجف يدا الرسام أمام هذه الآية من الجمال وسقط الفرشاة مع علبة الأصباغ من يده ، وتلك الوقفة والنظرة بالنسبة لها قلبت كيانها رأساً على عقب ، حيث تجمدت في مكانها برهة وهي تنظر إليه وفيه ملامح يشبه إلى حد ما الصورة وزوجها اقتربت منه أكثر لتراه عن قرب . . . أرادت أن تسأل عن إسمه ولسانها ..عجز عن ذلك ، فوفر عليها الكلام وكأنه يعرف ما تنوي أن تسأل . . . أنا اسمي أحمد . . . وحين سمعت ارتبكت أكثر وتكلمت مع نفسها . . سبحان الله نفس الأسم . . أ. . أح. . أحمد وبكت . . . أح . . أح . . أُحبك يا أحمد ، ومن حيث لاتدري ولا تعلم كيف وبعد لحظات تعانقت مع الفنان وأخذا يمارسان العشق أمام الصورة ، وتكررت الحالة مرات أخرى مما أدى إلى إطالة فترة تواجده في دارها وتأخير العمل ، حتى شاعت في المدينة عن وجود علاقة غير شرعية بين أرملة النجل ورسام صورته ووصل الخبر إلى آذان الكبير بعد أن رأتهما خدم قصرِها معاً أمام الصورة وهما يمارسان العشق لأكثر من مرة . . . جنّ جنون الكبير ، لا يدري كيف يتعامل مع هذه الفضيحة . . التخلص منها يزيد في الطين بلةً وتزداد الفضيحة أكثر . . . قرر مع نفسه التخلص من الرسام بأي شكل ومهما يكلفه الثمناستعان بغيره من أصحاب النفوذ واليد الطولى في مثل هذه العمليات ليُنَفِذ الغدر به مساءاً وبعد عودته من العمل في دار ولده الفقيد ، وحينما علم بالخبر وإنتهاء العملية ، اعتبر نفسه من أولياء الأمر ليقدم شكوى إلى السلطات للتحقيق في الحادث واعتبر مقتله أيضاً إهانة لشخصه كون الرسام يعمل لديه في تلك الفترة . . . وحزنت ارمل ة نجله حزناً شديداً على رحيل عشيقها بعد زوجها ولكن حزنها احتفظت به في الأعماق فقط . . قدمت نقابة الفنانين في المدينة أيضاً شكوى إلى الجهات المعنية حول مقتل أحد أعضاءها البارزين وهو فنان معروف . . . وكانت نهاية التحقيق . . المتهم مجهول والدعوة مقامة ضده . . وبمناسبة الذكرى السنوية لرحيل الفنان ، أصدرت الوزارة المعنية بشؤون الثقافة وبعد حصول موافقة الجهات العليا أمراً بعمل تمثال يليق بمقام فنانها وفي المنطقة الذي نُفذ عملية الغدر به مع عمل جنائن كبيرة تغطي مساحة من المنطقة . . وشاء القدر أن يكون دار الكبير من ضمن الدور التي يتم تدميره لعمل الحدائق مقابل دفع تعويضات مالية له من قبل السلطات . . . ولم يكن بمقدوره أن يعصي الأوامر الصادرة من الجهات العليا .. وبعد أن علمت أرملة الفقيد ، فرحت كثيراً بذلك الخبر والذي تجعلها تزور تمثال عشيقها دائماً . وفي يوم افتتاح التمثال وبحضور ممثل من أعلى السلطة والمسؤولين في المدينة وأعداد كبيرة من زملاءه الفنانين من رسامين ونحّاتين مع جمع غفير من أهل المدينة وحضر أيضاً كبير الوجهاء والأغنياء ، وألقى كلمات الممثلين الرسميين بالمناسبة شاجبين صاحب اليد القذرة الذي اغتال الفنان و. . . و.. والكلمات هذه كانت كالصاعقة اخترقت قلب الكبير . . نعم اخترقت قلبه.. مات كبير الأغنياء . . . مات كبير الوجهاء . . . مات كبير القتلة... في المدينة وأمام التمثال الذي كان كل أملٍ أن يكون لنجله الفقيد مثله وهكذا أُقيمت مراسيم الفاتحة لكبير الوجهاء في تلك الجنائن والتي تحتضن.. تمثال الفنان الكبير. . .

ليست هناك تعليقات: